
معاني الحج ومقاصده أكبر وأعظم من أن يحيط بها قلم أو لسان
الشيخ مظهر الحموي
في هذه الأيام المباركة التي يقف فيها أكثر من مليون حاج في المشعر الحرام يستشعر المؤمنون مدى غبطتهم في أداء هذه الفريضة إمتثالا لقوله تعالى : { …وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَیۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَیۡهِ سَبِیلࣰاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِیٌّ عَنِ ٱلۡعَـٰلَمِینَ }
إنه السمع والطاعة لرب العالمين فور إقرار هذه الفريضة بقوله عز وجل :{ وَأَذِّن فِی ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ یَأۡتُوكَ رِجَالࣰا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرࣲ یَأۡتِینَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِیقࣲ }
أي يقبلون راجلين أو راكبين ليشهدوا منافع لهم ، وهذا إقرار من المولى سبحانه بالبركات والعظات والمنافع التي يشهدها الحجاج في تأدية مناسكهم .
ولقد استفاض الفقهاء في الحديث عن المقاصد الجمة التي يستشعر بها الحاج منذ إعلان نيته أداء هذه الفريضة، وأمنيته في أن يعود كيوم ولدته أمه وقد غفر الله ذنوبه كما جاء في الحديث النبوي الشريف : منْ حجَّ فَلَم يرْفُثْ، وَلَم يفْسُقْ، رجَع كَيَومِ ولَدتْهُ أُمُّهُ .
فهو منذ مغادرته منزله فإنه يستشعر بأنه قد ترك أمر هذه الدنيا خلفه وهو يفارق الأهل والأحباب والديار والممتلكات ، بعد أن أدّى ديونه وطلب السماح ممن أساء إليهم، لأنه الآن يريد أن يحج إلى بيت الله الحرام خالياً من متاع الحياة الدنيا ، سوى ثياب الإحرام كأنها كفن المؤمن يستذكر بها حاله إذ ينتقل إلى دار البقاء وقد تخلى عن كل ما يملكه، إلا عمله.
وتتبدى أخلاق المؤمن في هذه الرحلة ، وبخاصة في زمن السفر براً ، وأهمية التحلي بالصبر وحسن المعشر واللطف وإقالة عثرات الضعفاء وإعانة العجزة وتحمل الأذى والحرص على السكينة والوقار، والامتناع عن غليظ الطباع،
التي لا تتوافق مع صفات المؤمن وخاصة في هذه الفريضة.
ومع كل ركن من أركان الحج لا بد أن يقف العبد أمام جملة معان وحكم يجتهد في اقتسابها وتمثلها واستذكار غاياتها مما يزيد في متعة عبادته وعمق مغازيها وفوائدها، فالجميع هنا في لباس أبيض لا فضل لأحد أو ميزة، يطوفون بالبيت العتيق في إبتهال وتلبية يجأرون بالدعاء، وطلب المغفرة، وقد أتوا من كل حدب وصوب بقلوب خاشعة «لبيك اللهم لبيك» لبينا النداء وأقبلنا خاضعين.
وما بين الصفا والمروة يستعيد الحاج قصة إيمان السيدة هاجر وصبرهـا وسعيها بينهما للتفتيش عن الماء لإبنها إسماعيل عليه السلام ، فيزداد الحاج إيمانا بقدرة الله عز وجل وباستجابته لدعاء المؤمن الصابر المحتسب .
وإذ يلتقـي ملايين المؤمنين على صعيد عرفة وقد أتـوا شـعـثا غبرا بمشهد يقارب يوم الحشر فإن الحجيج في هذا الموقف في أرقى درجات العبودية والخضوع لا مطـلـب لهم هناك سوى ان يغفر الله لهم .
وتتجلى معانى الأضحية بقصة الإيمان الحق ورضى نبي الله إبراهيم بأمره سبحانه وتعالى بذبح إبنه إسماعيل عليه السلام امتثالا ، وفديناه بذبح عظيم ، وهذا ما يستشفه المؤمن من هذه الأضحية التى تؤكد دروس الإذعان لله تعالى والامتثال لأوامره والصبر على المكاره.
وما شعيرة رجم إبليس إلا استكمالا لهذه المقاصد التي ينبغي للمؤمن إستيعابها عهدا وميثاقا في ان يوالي صده للوسواس الخناس ويقتلعه من صدره .
ولا يذوق حلاوة هذه الفريضة ومتعتها إلا من أداها حق الأداء وإستلهم عبرها ومغازيها ليستسيغ طيبها وبهائها.
وأي متعة للحاج وهو يلتقي إخوانه الوافدين من كل جنس ولون ولسان في أضخم مؤتمر يتداعى إليه المؤمنون في أيـام مـعدودات ، يتبادلون المودة والنجوى والهموم ، ويتشاركون في فريضة العمر وقد امتلأت قلوبهم غبطة وسكينة ، ويستشعرون العزة والتعاضد والقوة والمتعة صفا واحدا كأنهم بنيان مرصوص .
وتكتمل بهجة الحاج في زيارته المدينة المنورة والسلام على رسول الله ﷺ واسترجاع سيرته العطرة والتعهد بالإمتثال لأوامره والارتداع عن زواجره .
ويضيق المقام بذكر ما يقف عليه المؤمن وهو يؤدى هذه الفريضة ومن ذاق عرف ومن عرف غرف ، وكـم يصعب على أحدنا أن ينقل تلكم المشاعر الجياشة التي يحسها الحاج في تلكم الديار المقدسة وحسبه أن يظل قلبه معلقا بتلك البقعة الطاهرة عندما يغادرها وقد عاهد الله أن يتابع في بقية أيامه ما أقر به وإلتزمه من صفات المؤمن الصالح في علاقاته مع أسرته وجيرانه وأصحابه ومجتمعه.
معاني الحج ومقاصده أكبر وأعظم من أن يحيط بها قلم أو لسان ، إنها فريضة العمر التى يحلم بها كل مسلم ويشد إليها الرحال شوقا ولهفة وكله أمل أن يحسن تأديتها ويغترف من معينها ، ويستزيد من خيراتها ، وغاية أمنيته أن يعود إلى دياره بحج مبرور وسعي مشكور وذنب مغفور وتجارة لن تبور .
وكـم يستشعر المؤمن عظيم واجباته بعد أدائه هذه الفريضة ، فيظل على بصيرة من كل ما يبدر منه ليحقق في هذا السلوك المستجد جدارته وأهليته وصدق عهده مع الله في أن يثابر على تأكيد مواصفات الحاج حقا ، وهذه أبرز المقاصد التى يتوفاها منه أهله ومجتمعه ، وهنينا لمن أوفى بالعهد .
{… وَأَوۡفُوا۟ بِٱلۡعَهۡدِۖ إِنَّ ٱلۡعَهۡدَ كَانَ مَسۡـُٔولࣰا }
أخوكم الشيخ مظهر الحموي