تقديم كتاب أمريكا بعيون عربية لمؤلفه الدكتور زياد الحافظ

تقديم كتاب أمريكا بعيون عربية للدكتور زياد الحافظ

بقلم الأستاذ ناصر قنديل

الاقتصاد السياسي لأفول الامبراطورية
يقدم الدكتور زياد الحافظ في رائعته المخصصة لإثبات روايته التي دأب ربع قرن على المناداة بها حول دخول الامبراطورية الأميركية مرحلة التراجع التاريخي، بحثا موثقا في الاقتصاد والسياسة والاجتماع السياسي والثقافي، يشكل مادة مرجعية لا غنى عنها لامتلاك فهم حقيقي لأمريكا ومصانع السياسة فيها، وتوازنات المكونات الكبرى في اقتصادها، وميكانزمات عمل ما يعرف بالدولة العميقة، وديناميكيات الاجتماع السياسي من أصول إثنية وعرقية وثقافية وأنماط تساكنها ونزاعاتها، بحيث تزاحمت المعلومات الموثقة مع التحليل الدقيق لتقديم لوحة متدفقة الألوان سهلة الفهم رغم تعقيد العناصر التي تقوم بمعالجتها، لكنها معالجة العالم الخبير الذي يملك مفاتيح تفكيكها وتشريحها وتبسيط اعادة تقديمها وجمعها وتركيب الصورة الحية منها، بحيث لا يمكن أن تقع يد الباحث على كتاب يمكن ان يكتب على غلافه “الدليل لفهم الداخل الأميركية والدولة العميقة ومراكز القوى والنفوذ في أميركا”، على ما هو أفضل وأغني وأدق من هذا الكتاب، الذي يمكن تشبيهه بدليل الاستخدام الذي يصل عادة من المصانع المحترفة مع الآلات المعقدة، شارحا كيفية عملها وتشغيلها وفهم أسرارها.
في هذا النص لا اقوم بتقديم الكاتب الدكتور زياد الحافظ، الصديق ورفيق النضال الفكري والثقافي، وقد تشاركنا في تأسيس منتدى سيف القدس مع نخبة عربية مناضلة ومثقفة في الوطن والمهجر تثابر على خوض معركة الوعي تحت عنوان فلسطين البوصلة والمقاومة خيار ولا مستقبل دون الوحدة، وفي كل أسبوع كان المنتدى ينتظر مداخلات الدكتور زياد الحافظ التي تزخر بالمعلومات والتحليل يغني بها المضمون المعرفي والثقافي للمنتدى والمشاركين فيه ومتابعيه، ومثله كان ينتظر الشباب والصبايا في منتدى شباب سيف القدس ما يقدمه الدكتور الحافظ يحفظونه عن ظهر قلب ويعيدونه في نقاشاتهم مادة مرجعية لفهم الوضع العربي والدولي، ويقدمون من خلاله الروح التي تنبض بها مداخلات ومقالات الدكتور زياد مشيعة التفاؤل في أشد لحظات النضال صعوبة وأكثر الأوقات قتامة، بناء على قراءة منهجية تفكك تناقضات المعسكر الغربي والصهيوني، تستقرئ اتجاه حركة الصراع، وهو منذ سيف القدس الذي حمل المنتدى اسمه يبشر بطوفان قادم لا محالة، ومع الدكتور زياد حل المقاوم الأممي الذي صار شهيدا عظيما السيد حسن نصرالله رفيقا دائما بما أضافه من عمق قراءة ينوه بها الدكتور زياد باستمرار، ويضيء على مكانة الأخلاق في السياسة التي شكل لها السيد مثالا حيا، وقدمت تعبيرا ملموسا عن معنى الفارق بين فائض القوة والقيمة المضافة، فصارت ثلاثية منتدياتنا رباعية باضافة السيد الى فلسطين والمقاومة والوحدة، وصارت المنتديات ثلاثة بولادة منتدى التفكير الاستراتيجي، الذي استضاف الشهيد الكبير اسماعيل هنية، وقدم له الدكتور زياد وقام بمحاورته باسم المنتدى الذي جمع شخصيات فكرية وثقافية عربية، تقدمها المفكر والمثقف العربي رئيس حكومة العراق السابق الدكتور عادل عبد المهدي، الذي لا يخفي اعجابه الدائم بالتحليلات العلمية للدكتور زياد، ويعتبرها مرجعا في فهم الحالة الأميركية بتعقيداتها وخلفياتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية.
في كتابه هذا جمع الدكتور زياد المنهج الخلدوني لقراءة التاريخ ومنهج ابن رشد في علم الاجتماع، إلى العلوم الحديثة في الاقتصاد المصرفي، وعناصر تكوين الموازنات العامة للدول وكيفية ادارة محافظ الدين، مستفيدا من خبرته التي راكمها عبر سنوات التعاون مع المؤسسات الدولية المالية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، مستندا إلى علومه الجامعية العالية واستذته في كبريات الجامعات لتعليم الاقتصاد والسياسة، وقراءاته التي لا تتوقف كطالب نهم لا يزال في سنته الجامعية الأولى.
هذا الكتاب يرسم خطوطا بيانية لثلاثة منحنيات في المسار الأميركي، خط بياني للقوة الاقتصادية، و خط بياني آخر للمشروع الاجتماعي والثقافي، و خط بياني ثالث للقيادة السياسية وفي قلبها مكانة الدولة العميقة، ويرصد حركة هذه الخطوط البيانية وتعرجاتها ومساراتها، على مدى ربع قرن منذ بدء حروب المحافظين الجدد، ويقيم بعض الاسقاطات لمقاطع على مدى نصف قرن مع نهاية حرب فيتنام، وفي بعضها على ثلاثة أرباع القرن، أي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ويكتشف كيف أنها جميعها للمرة الأولى ترسم منحنى انحدار متماد ومستدام، بينما في محطات تأزم سابقة كان أحد الخطوط البيانية يسجل مسارا هابطا لكن الثاني كان يسجل منحنى صعود، ولا يمكن فهم المسار الانحداري عندما يستديم ويتمادى في كل الخطوط البيانية، الا كدليل على دخول الامبراطورية مرحلة الأفول، وربما التفكك، طالما أن الخط البياني الاجتماعي والثقافي يفقد حيوية وقدرة الصمود ويمتنع عن تسجيل اتجاها نحو الصعود، بل يشترك مع المسارين الاقتصادي والسياسي في الانحدار.
لو كان الكاتب من النخب الأميركية التي تعد التصورات وتقديرات الموقف لصناع القرار، لكان عنوان كتابه، انتبهوا أميركا في خطر، خطر الانحلال والسقوط والانهيار، و سارعوا لفعل شيء كبير يتيح منح أميركا فرصة البقاء على قيد الحياة، إن لم يكن ممكنا اعادتها الى مكانتها السابقة، وان كانت امريكا العظمى تحتضر فهل يمكن اعادة احياء أميركا العظيمة، القوية بقدرتها الداخلية و المتأقلمة مع تراجع نفوذها الخارجي، وان استعصى الاثنان، هل يمكن ابتكار شيء جديد مثل أميركا الكبرى، بتطلعات التوسع نحو الجوار والاحتماء وراء المياه؟
لو كان الكتاب استقراء مركز دراسات من مراكز الدولة الأميركية العميقة يجب أن ينتهي بتوصيات لصناع القرار الأميركي، لكانت التوصية، أن أميركا تحتاج الى حل من خارج الصندوق، الى عملية جراحية، إلى استجماع قوى تحالفات جديدة تشكل جبهة انقاذ تضرب على أيدي قوى عملاقة تتحكم بمسار الدولة الاعظم في العالم وتسير بها إلى الهاوية.
إن المادة المعرفية التي يقدمها الكتاب والأزمات البنيوية التي يضيء على عمقها وحجم تأثيرها ودرجة تجذرها، تجعلنا نفهم بصورة أفضل لماذا جاءت الموجة الحاملة لظاهرة دونالد ترامب على مدى عقد متصل، وعندما هزمت عادت بصورة أقوى، لأنها في الأصل أكبر من مجرد ظاهرة شعبوية بيضاء في قلب حرب هويات مفتوحة ينظر خلالها البيض للملونين باعتبارهم تهديدا ديمغرافيا وشيكا، ولأنها أكثر من مجرد ظاهرة اجتماعية محافظة في مواجهة مخرجات العولمة وامراضها وتلوثاتها وآخرها الجندرية المفرطة الذاهبة لاستخدام موارد الدولة ومؤسسات التعليم لدفع المجتمع قسريا نحو انفصام شخصية جنسية مريضة، في قلب حرب ثقافية تدور على كل المنابر والمنصات الجامعية والكنسية والاعلامية.
يستطيع القارئ أن يجد في الكتاب الاقتصاد السياسي للترامبية، باعتبارها محاولة أخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وتغيير الاتجاه، في لعبة خداع تاريخية امبراطورية، تحت عنوان أميركا العظيمة بدلا من أميركا العظمى لنحصل على أميركا الكبرى في الخطاب الترامبي، عبر الدعوة لضم كل كندا والمكسيك وبنما وغرينلاند.

فائض القوة والقيمة المضافة
خلال اعداد كتابي “حزب الله – فلسفة القوة” بين عامي 2015 و2018، كنت أرسل مسودة الكتاب فصلا بفصل للدكتور زياد الحافظ، بهدف سماع ملاحظاته، لأنني وضعت في الكتاب ما اعتبره عصارة أفكاري و استنتاجاتي في فهم الظواهر السياسية وتحليلها، واحتاج الى فحصها مع مفكر وصديق في آن واحد، وكان الدكتور زياد يقرأ ويزودني برأيه، وغالبا ما ندير نقاشا حول بعض الأفكار، وكانت نظرية فائض القوة والقيمة المضافة التي اعتبرتها ركيزة فهمي الجديد في الفكر السياسي والعلوم السياسية، تشكل أبرز المعادلات الجديدة التي تضمنها الكتاب على هذا الصعيد، وقد لاقت عند الدكتور زياد اهتماما استثنائيا وتقديرا عاليا، وصار ينوه بأهميتها في مناسبات عديدة ومناقشات كثيرة، والنظرية تقوم على الاعتقاد بأن صعود الأمم، والأحزاب وربما الشركات أيضا، وتراجعها يقاسان بتوازن وسلاسة الانتقال بين ما تملكه من فائض قوة وقيمة مضافة، وفائض القوة هو كل ما تتشكل منه معايير موازين القوى التقليدية المادية من قوة اقتصادية وعسكرية وموارد طبيعية وموقع جغرافي ومقدرات إعلامية، وهو مختلف عن قوة الردع، أما القيمة المضافة فهي شيئ مختلف عن ما يسمى بالقوة الناعمة، انها المبادئ والقيم السامية والأخلاقية التي تمثل الرسالة التي تحملها الأمم والدول والحكومات والأحزاب، وربما الشركات أيضا مثل أمانتها للحفاظ على الصحة أو نقل المعرفة أو سواهما، وعندما تنفد من الدول قيمها المضافة وتفقد فرصة الظهور بمظهر التفوق الأخلاقي في حروبها ومنافساتها وسياساتها، يكون قد بدأ تراجعها، ويصير استخدامها لفائض القوة نوعا من العنف الأعمى غير القابل للتحويل الى انجاز في السياسة، فيقع الفشل ويتعمق التراجع، كما حصل مع الاحتلال الأميركي لأفغانتستان الذي شرح الرئيس جو بايدن اسباب انهائه بهذا الاعتبار، وقد سبق لأميركا ان ربحت حربها الباردة على الاتحاد السوفياتي، بتفوقها في فائض قوة عسكري و اقتصادي، لم يكن ثمة حاجة لتسييله في الميدان، بفضل تفوق القيمة المضافة التي مثلتها التجربة الأميركية في مجال الحريات الشخصية والدينية والاجتماعية بنسبة تتفوق كثيرا على مثيلتها في الاتحاد السوفياتي من الحرية الاعلامية والسياسية، وصولا الى الحرية الاستهلاكية، وبعد تفكك الاتحاد لاسوفياتي وانهياره نجحت اميركا بجعل مواجهة الارهاب قيمة مضافة جديدة، خصوصا بعد هجمات 11 ايلول التي استهدفت برجي التجارة العالمية في نيويورك، وكانت عنوان حربها على أفغانستان، ثم اضافت اليها في الحرب على العراق قيمة مضافة ثانية هي تعميم الديمقراطية، وبسبب فشل الحربين من جهة، وخيانة أمريكا لمصداقيتها في التعامل مع هاتين القيمتين من جهة موازية، بذريعة نظرية البراغماتية السياسية المصلحية التي بررت عبرها التعامل مع انظمة ديكتاتورية والتحالف اللصيق بها، ومثلها التعاون مع التشكيلات الارهابية تحت شعار النوم مع الشيطان، واستخدام هذه التشكيلات بصورة فاضحة في حربها ضد سورية لاحقا، بدت أميركا عارية من أي قيمة مضافة، فيما بدا أن فائض القوة لديها يتآكل بسرعة على كل صعيد.
يقدم لنا الكتاب مادة وافية في تظهير كيفية فقدان اميركا لعناصر فائض قوتها الاقتصادي والعسكري والسياسي والإعلامي والمالي من جهة، فهي فقدت مكانتها العسكرية المتفوقة، ومثلها مكانة الاقتصاد الأول في العالم، وقد أثقلتها الديون وغلبت المبادلات الافتراضية في تكوين اقتصادها على الأصول الاقتصادية الثابتة، وغلبت الانقسامات الاثنية والعرقية صورة وحدتها كأمة متماسكة من جهة، وتحولت تعدديتها الثقافية من نعمة إلى نقمة من جهة مقابلة، فصارت سببا لحرب هويات بعدما كانت مصدرا لصورة الهوية العالمية، ويقدم لنا الكتاب شروحا وافية على تراجع قدرتها على إنتاج القيم المضافة الجاذبة والمقنعة بمصداقية الالتزام بها، حيث تراجعت معايير الاحتكام للديمقراطية فيها، بينما ظهرت مؤسساتها الإعلامية فاقدة للمصداقية وتعبيرا عن لعبة تحت السيطرة، وضاعت معايير الحرية فيها، ووصلت حال التآكل الى المواطنة نفسها لتصبح في دائرة الأزمة، وهكذا جاء انحيازها الأعمى الى جانب حرب الإبادة التي شنها كيان الاحتلال على الشعب الفلسطيني بعد طوفان الأقصى، و انخراطها في مطاردة ما حركته الحرب عالميا وخصوصا في شوارع الغرب وعلى رأسها الشارع الأميركي والجامعات الأميركية، مثالا حيا على فقدان السياسات الأميركية الى القيمة المضافة، حيث ضاعت الحرية والتصقت بحماية الجريمة والتخلي عنم عيار حقوق الانسان، بينما قدمت حربها على اليمن والفشل في تحقيق أي من أهدافها، صورة وافية على مدى سنة ونصف لمحدودية فائض القوة الأميركي وقدرته على الإنجاز.

اختلال موازين التنافس مع الصين
إذا اعتمدنا منهج ابن خلدون في فهم الظواهر التاريخية، وخصوصا ربطه دخول الامبراطوريات مرحلة الشيخوخة وانتقالها إلى مرحلة الانحلال والتفكك، ببلوغ أمم منافسة مراتب النضوج في صعودها، فإن الصعود الصيني المؤرق لأميركا، يبدو قد بلغ مرحلة تؤذن بالتزامن مع الشيخوخة الأميركية بقرب حدوث تحولات كبرى في العلاقات الدولية، يصعب التنبؤ بحجمها وطبيعة تردداتها، لأن مثل هذه التحولات عندما تحدث تكون أقرب إلى الزلازل.
في قراءة الخط البياني بين مصادر القوة لكل من أميركا والصين اقتصاديا وعسكريا، سوف نرى أن الناتج الإجمالي الأميركي انتقل من 6 تريليون دولار عام 1990 إلى 26 تريليون عام 2024 بحيث تضاعف أقل من خمسة مرات، بينما انتقل الناتج الاجمالي الصيني من 0.36 تريليون عام 1990 الى 18 تريليون عام 2024 بحيث تضاعف 54 مرة، وإذا اعتمدنا قياس الناتج بالأسعار المبنية على القدرة الشرائية وليس على الجمع الدفتري، يقول لنا معيار ppp المعتمد من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أن الصين تجاوزت بحجم الناتج الإجمالي أميركا منذ عام 2017 وقد بلغت عام 2024 رقم ال 30 تريليون دولار.
تشكل الصين اليوم مصنع العالم باحتلال نسبة ثلث المشاركة الصناعية في ما ينتجه العالم، بينما تراجعت مكانة أميركا من 25% عام 1990 إلى المساهمة بنسبة 17% فقط لعام 2024، كذلك احتلت الصين مكانة أميركا باعتبارها الشريك التجاري الأول ل140 دولة، بعدما كانت شريكا اول لأقل من 10 دول عام 1990، بينما تراجعت أميركا من مكانة الشريك الأول ل 120 دولة عام 1990 إلى قرابة ال100 فقط عام 2024.
في الانفاق العسكري الذي تتبوأ فيه أميركا مكانة الدولة الأولى في العالم، بموازنة 760 مليار دولار، تحضر الصين بموازنة 270 مليار دولار، لكن مع فارق يتكفل بردم الفجوة بين الدولتين وجعل الصين في مرتبة أولى من حيث القيمة الفعلية للإنفاق العسكري، حيث تنفق اميركا 100 ألف دولار سنويا على الجندي مقابل 20 ألف دولار تنفقها الصين، أي بنسبة 5 الى 1، وبنسبة مماثلة تنفق أمريكا 100 مليون دولار لإنتاج الطائرة الحربية النفاثة اف 35 مقابل إنفاق الصين ل20 مليون دولار لإنتاج مثيلتها، ما يجعل القيمة الفعلية لرقم الـ 270 مليار دولار التي تنفقها الصين أكثر من 1.3 تريليون سنويا مقابل 760 مليار دولار تفنقها اميركا.
وهكذا يبقى مصدر القوة الأهم بالنسبة لأميركا هو تبوأ الدولار مكانة العملة الأكثر تداولا في العالم بنسبة 80% كما تقول الإحصاءات الأميركية ونسبة 60% كما تقول الإحصاءات الروسية الموازية، لكن هذه النسبة كانت أقرب الى الـ 100% مع نهاية الحرب الباردة، بينما كان اليوان الصيني يمثل نسبة 0.2% من التداولات العالمية عام 1990 مقابل 4% عام 2024 حسب بعض الإحصاءات الأميركية و7% حسب الاحصاءات الصينية، أي بزيادة 20 ضعفا إلى 35 ضعف .

الدولار أساس المكانة الأميركية داء ودواء
يلتقي الدكتور زياد الحافظ مع ابن خلدون في وضع السياسة في مكانة متقدمة على الاقتصاد في صناعة التحولات تقدما وتراجعا، وغالبا ما كان يشرح كيف ان الافراط في سياسة العقوبات المالية، التي تهدف لتشديد قبضة الهيمنة الأميركية، كسبب لظهور خط بياني تراجعي في وضعية الدولار عالميا، وهو ما قاله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في رده لما وصفه الأميركيون بالحرب على الدولار، بالقول ان لا احد اراد محاربة الدولار لكن الإفراط في العقوبات فرض على الدول الخروج من الدولار.
شكلت محاولة تعويض التراجع في المكانة الاقتصادية الأميركية، مقارنة بالصين خصوصا، عبر تشديد القبضة الأميركية على العالم وحكوماته سياسيا وعسكريا، الأساس لسياسة العقوبات المالية التي تنطلق من هيمنة أميركية مثلثة، بامتلاك العملة الأكثر تداولا، وامتلاك النظام المصرفي الأكثر هيمنة على التداولات المالية في العالم، وامتلاك نظام التبادل المالي والتحويلات المالية الأول في العالم، وشهد العالم نماذج لفعالية هذه السياسة في تصنيع أزمات خانقة لدول أرادت أميركا تطويعها، ولا تزال العقوبات على ايران اشد الأسلحة الأميركية فعالية، سواء في إضعاف العملة الوطنية الايرانية او في تضييق هوامش التجارة الخارجية أمام إيران خصوصا في سوق النفط والغاز، وقد قدمت لنا الحرب الأميركية على سورية مثالا حيا على ما تستطيع العقوبات فعله، الى حد اسقاط النظام دون حرب.
كان استدراج روسيا الى حلبة الحرب مع أوكرانيا خطة أميركية أوروبية محكمة لاسقاط روسيا، عبر استفزاز موسكو بتعطيل الحلول السلمية للأزمة مع أوكرانيا من جهة، واستغلال المبادرة الروسية الى بدء العملية العسكرية ضد أوكرانيا من جهة موازية، لفرض حزمة عقوبات غير مسبوقة عليها، كان يفترض ان تؤدي الى سقوط روسيا وربما تفككها.
كانت العقوبات على روسيا نقطة تحول عكسية، فقد نجحت موسكو من جهة بتجاوز الحزمة القاتلة وتحويل التحدي إلى فرصة، وتسجيل درجات نمو عالية، و من جهة ثانية مثلت العقوبات جرس إنذار لدول مجموعة بريكس لتوسيع نطاق المبادلات بالعملات الوطنية تمهيدا لاعتماد عملة عالمية موحدة رديفة للدولار في التداولات العالمية التجارية ، بينما أصابت العقوبات مصداقية الأمان والحياد والثقة بالنظام المصرفي الغربي عموما والأمريكي بصورة خاصة من جهة ثالثة.
ترتب على تراجع مكانة الدولار عالميا نتائج خطيرة على تركيبة الاقتصاد الأميركي، وخصوصا على القدرة المالية للحكومة، التي كانت تملك قدرة لا محدودة على الإنفاق يوفرها ضخ مزيد من الأوراق النقدية في الأسواق، بآثار تضخمية محدودة وقابلة للامتصاص، طالما أن الدولار يمثل عملة العالم كله، فالنمو الاقتصادي في أي دولة في العالم يمثل قوة للدولار، رغم تراجع الاقتصاد الأميركي، وهذا ما لم يعد قائما مع التراجعات التي أصابت هيمنة الدولار خصوصا في الأسواق الأشد نمو كالسوق الصينية، بحيث أصبح الدين وسيلة شبه وحيدة لتغطية حاجات الإنفاق، وبدأ الرفاه الاجتماعي يعاني من الاختناقات مع تراجع الإنفاق وتقييده بحدود الواردات، وهذا ما دفع بخطة رفع الرسوم الجمركية الى الواجهة كخطة بديلة لإخضاع اقتصادات العالم ومحاولة صناعة النمو في الاقتصاد الأميركي كبديل لسياسة العقوبات التي بدأت تتراجع أهميتها بعد الفشل في تجربة الحرب مع روسيا.

الموازنة والدين والحلقة الانفجارية
وفقا لصحيفة وول ستريت جورنال نهاية عام 2024 بلغ إنفاق الحكومة الأمريكية في السنة المالية الأخيرة التي انتهت في أيلول 2024 ما مجموعه 6.75 تريليون دولار مقابل إيرادات حكومية اقل من 5 تريليون بقليل أي بعجز يزيد عن 1.75 تريليون دولار، يجري تمويله بالدين، بينما تمثل خدمة الدين في النفقات أقل من 1 تريليون بقليل، مقابل 3 تريليون دولار نفقات الضمان الاجتماعي والصحي، ونصف تريليون للرواتب وأكثر من تريليون للنفقات العسكرية والمتقاعدين، بحيث تضيق سنة فسنة مساحة النفقات الاستثمارية، خصوصا المخصصة للبنى التحتية، ومع بلوغ الدين 140% من إجمالي الناتج الوطني أي 36 تريليون دولار، تزداد سنويا بفارق العجز وتزداد معها خدمة الدين، في حلقة انفجارية مغلقة تجاوزت مراحل الخطر، وبات العمل الجراحي الضروري لايقافها ضرورة ملحة، مع انسداد القدرة على علاجها بزيادة الكتلة النقدية وضخ المزيد من الأوراق النقدية في الأسواق، بينما بلغ حجم قيمة سندات الخزينة الأميركية 8 تريليون دولار، مقابل أقل حجم ودائع ب 6 تريليون دولار.
لولا حجمها الكبير لكانت ميزانية حكومة الولايات المتحدة الأميركية تشبه ميزانية بلد ضعيف وفقير مثل لبنان عشية أزمة 2019، عندما تجاوز قيمة الدين 150% من الناتج الإجمالي الوطني، وتجاوزت خدمة الدين نسبة 15% من الموازنة العامة، ولم يعد ممكنا تمويل الإنفاق بضخ المزيد من الأوراق النقدية، وصارت سندات الخزينة تزيد عن قيمة الودائع المصرفية.
جاءت الرسوم الجمركية استجابة جراحية معاكسة لجوهر الاقتصاد الأميركي القائم على فلسفة السوق الحرة وحرية التجارة، أملا بزيادة الواردات الحكومية من جهة، وتحفيز قطاعات الإنتاج وتمكينها من منافسة البضائع المستوردة، وتضييق الفجوة التجارية مع الشركاء التجاريين، وسط رهان على جباية 1 تريليون دولار من عائدات هذه الرسوم، واستعادة الشركات الأميركية التي نزحت الى الأسواق الخارجية، وخصوصا الصين والهند وفي طليعتها شركات الصناعات التكنولوجية، مثل الحواسيب والهواتف الذكية وبرامج وتطبيقات التقنيات الحديثة ومنها الذكاء الصناعي وصناعة الموصلات الدقيقة.

إشكاليات منهجية الرسوم الجمركية
لم يكن فائض الميزان التجاري لصالح الحلفاء الذي اتخذ شعارا للرسوم الجمركية يتحقق خلسة، بل كان نوعا من تقسيم العمل الذي اختارته منظومة العولمة الأميركية، لضمان الولاء السياسي للدول الحليفة مقابل اغراقها بعائدات اقتصادية عبر فتح السوق الأميركية أمام بضائعها، وامتناع اميركا عن دخول سوق بيع النفط والغاز، ولعل أول مترتبات الرسوم الجمركية والسعي لردم فجوة التبادل التجاري مع الحلفاء، المخاطرة بخسارة الولاء السياسي للدول الحليفة، بما فيها أوروبا وكندا واستراليا واليابان ودول الخليج النفطية.
لم تكن الوعود المقطوعة للمستهلك الأميركي عن تحسن لاحق للوضع الاقتصادي مع تطبيق الرسوم الجمركية عبر نهوض الإنتاج المحلي وما يحمله من فرص عمل، كافية لحجب حقيقة أن المستهلك الأميركي هو من سوف يدفع الرسوم الجمركية بصيغة ارتفاع محموم في الأسعار وتضخم في الأسواق.
تخاطر امريكا اضافة الى خسارة قيمتها المضافة التي مثلتها حرية التجارة، التي بذلت أميركا لتسويقها والترويج لها كعلامة على التقدم سنوات كثيرة، بخسارة المعركة نفسها، أي الوقوع من جهة في تناقض حاجات النمو الاقتصادي والرفاه الاجتماعي، حيث يحتاج النمو الاقتصادي الى قدرة تنافسية عالية لا يوفرها نسق الرواتب والأجور المرتفع، بينما يحتاج الوفاء بوعود تحسين أحوال المعيشة إلى تخفيض الأسعار وتحسين المداخيل، وهو ما يتناقض مع وظيفة الرسوم الجمركية، و من جهة أخرى، تناقض الحاجة للحلفاء وحشدهم في المواجهة مع صعود الصين الاقتصادي وصعود روسيا العسكري، مع الحاجة لتضييق الفجوات الاقتصادية في التبادل التجاري مع هؤلاء الحلفاء بالضغط عليهم والتضييق على اقتصاداتهم عبر الرسوم الجمركية، ولعل الإشارات التي رافقت الأيام الأولى لتطبيق الرسوم الجمركية وسرعة التراجع عنها من جهة، وزيادة الرسوم على الصين وحصر المعركة التجارية معها، ثم إعفاء منتجات التكنولوجيا المستوردة من الرسوم الجمركية وأغلبها مستورد من الصين، من جهة مقابلة، قد أظهرت حجم التعقيدات المرافقة لمنهجية الرسوم الجمركية، وقد جاء كلام رئيس شركة آبل ليشرح بالتفاصيل ما وصفه بـ استحالة نقل إنتاج هواتف آيفون إلى السوق الأميركية.

أميركا الكبرى هي آخر خرطوشة
رغم المكابرة والصوت المرتفع، وجدت أميركا ان معركتها الخاسرة بوجه روسيا يجب ان تنتهي، حيث استندت الخطة الرئيسية لمواجهة روسيا على اتخاذ الحرب ذريعة لحزمة العقوبات القاتلة، وبفشل هذه الحزمة كان على الحرب أن تتوقف، لولا أن الهزيمة سوف تكون مدوية، وصار الاستمرار في تمويل الحرب وتأمين الأسلحة والذخائر لمواصلتها، تحت سقف عدم التورط الأميركي المباشر في الحرب، خشية خسارة أشد دويا، بمثابة الدوران في حلقة مفرغة تزداد انغلاقا، في حرب تخوضها روسيا على حدودها، وقد استعدت لها، وتحت عنوان يتصل بكرامتها الوطنية، وفي ظل منظومة حربية وانتاجية عسكرية حكومية طيعة، بينما على أميركا أن تخوضها عبر المحيطات ودون حافز يتصل بأمن المواطنين الأميركيين، ودون جهوزية عسكرية وفي ظل منظومة انتاج حربي تحكمها الشركات وتعقيدات تلبيتها لحاجات الحرب، كما قالت السنوات التي مضت من الحرب نفسها.
كانت روسيا فوق ذلك قد تجاوزت خطوط التنافس وسجلت تفوقا ملحوظا في ميدان السباق على تصنيع وامتلاك الاسلحة الاستراتيجية خصوصا في مجال الصواريخ العابرة للقارات، والصواريخ المضادة للصواريخ، وحجزت المرتبة العالمية الأولى في هذا الميدان الاستراتيجي بلا منازع.
في ظل عدم اليقين من الفوز بمعركة أميركا العظيمة، مع صرف النظر عن أميركا العظمى، التي منيت بالفشل، تقدمت اميركا الكبرى كبديل، وبدأت تظهر معالم التوجه الجديد مع اللغة الخشنة في مخاطبة الجيران التي تعبر عن نوايا توسعية، نحو كندا والمكسيك وبنما وغرينلاند، لبناء جغرافيا متصلة خلف الأطلسي تضم مساحات ضخمة وموارد طائلة وتشكل سوقا كافيا لتحقيق الاكتفاء الذاتي السلعي والغذائي والتجاري.
ان تطبيق منهج ابن خلدون حول أفول الامبراطوريات يصيبنا بالدهشة لدرجة انطباق معايير الشيخوخة على الإمبراطورية الأميركية، سواء عبر الانسحاب من أفغانستان، ترجمة لما يقوله ابن خلدون عن مغادرة الأمصار البعيدة التي تصبح عالية الكلفة محدودة العائدات، أو عبر تفشي ظواهر الترف والبذخ والانفاق غير المجدي والفوضى المالية، وزيادة الضرائب، وصولا الى انقسام العصبية الحاكمة وتحول الجيش إلى مرتزقة بلا قضية وبدون حافز للتضحية، وهيمنة الربا على الإنتاج، وبروز ظواهر الانفلات الاجتماعي من القيم، ورداءة النخبة الحاكمة، والامبراطوريات الكبرى عندما يحين أوان سقوطها لا تصرح بذلك، أنها تسقط وحسب.
كما استدعت فرنسا نابليون بونابرت في محاولة اخيرة لانقاذ مكانتها الامبراطورية تبدو أميركا وقد استدعت دونالد ترامب لفعل شيئ مشابه، بحيث قد يصح القول أن الترامبية هي آخر مراحل الامبريالية.
هذا الكتاب الذي وضع فيه الدكتور زياد الحافظ خلاصة أبحاثه وأفكاره عن الحال الأميركية وخلفياتها، وقدمه للقارئ بصورة مكثفة طلبا للوصول إلى أوسع شرائح القراء، هو المادة المعرفية التي لا غنى عنها للقارئ لامتلاك ناصية الحركة التاريخية التي تدخل معها الإمبراطورية أشد مراحلها التاريخية حرجا ودقة.

ahmadstaiteh

President, Manager

Related Posts

شارك سعادة سفير لبنان الدكتور مصطفى أديب في ألمانيا في أعمال المؤتمر الوزاري لشؤون حفظ السلام الذي ينعقد في برلين يومي١٣ و١٤ ﺃيار٢٠٢٥

شارك سعادة سفير لبنان الدكتور مصطفى أديب في ألمانيا في أعمال المؤتمر الوزاري لشؤون حفظ السلام الذي ينعقد في برلين يومي١٣ و١٤ ﺃيار٢٠٢٥

الاحدب في مؤتمر صحفي: نحذر من محاولة اغتيال المحامي صبلوح واعادة تركيب ملفات الإرهاب لشبابنا، لا للائحة توافق النواب ونعم لتشكيل لائحة من المرشحين الاوادم الموزعين على مختلف اللوائح

مؤتمر صحفي للنائب السابق مصباح الأحدب

ربما فاتك

لجنة كفرحزير البيئية تطالب بتعيين محقق عدلي

لجنة كفرحزير البيئية تطالب بتعيين محقق عدلي

شارك سعادة سفير لبنان الدكتور مصطفى أديب في ألمانيا في أعمال المؤتمر الوزاري لشؤون حفظ السلام الذي ينعقد في برلين يومي١٣ و١٤ ﺃيار٢٠٢٥

شارك سعادة سفير لبنان الدكتور مصطفى أديب في ألمانيا في أعمال المؤتمر الوزاري لشؤون حفظ السلام الذي ينعقد في برلين يومي١٣ و١٤ ﺃيار٢٠٢٥

الاحدب في مؤتمر صحفي: نحذر من محاولة اغتيال المحامي صبلوح واعادة تركيب ملفات الإرهاب لشبابنا، لا للائحة توافق النواب ونعم لتشكيل لائحة من المرشحين الاوادم الموزعين على مختلف اللوائح

الاحدب في مؤتمر صحفي: نحذر من محاولة اغتيال المحامي صبلوح واعادة تركيب ملفات الإرهاب لشبابنا، لا للائحة توافق النواب ونعم لتشكيل لائحة من المرشحين الاوادم الموزعين على مختلف اللوائح

أوضاع طرابلس والانتخابات محل بحث بين الدكتور محمد الحزوري والنائب أشرف ريفي في منزله

أوضاع طرابلس والانتخابات محل بحث بين الدكتور محمد الحزوري والنائب أشرف ريفي في منزله

في العلاقة بين القضاء والاعلام وإصلاح الإثنين معا

في العلاقة بين القضاء والاعلام وإصلاح الإثنين معا

بيان استنكار من جمعية مكارم الأخلاق الاسلامية في طرابلس

بيان استنكار من جمعية مكارم الأخلاق الاسلامية في طرابلس

المقدّم في مناسبة بدء الانتخابات البلدية والاختيارية: الشمال يناديكم لا تتركوا صناديق الاقتراع فارغة

المقدّم في مناسبة بدء الانتخابات البلدية والاختيارية: الشمال يناديكم لا تتركوا صناديق الاقتراع فارغة

بيان للمديرية العامة للطيران المدني

بيان للمديرية العامة للطيران المدني