
بسم الله الرحمن الرحيم
تابعنا بكل أسف إطلاق منصة اليمين المسيحي المتطرف في لبنان في المؤتمر التأسيسي الأول المنعقد في فندق البستان – بيت مري، تحت عنوان: “المحافظون الجدد”.
وساءنا جدًا ما أعلنوه من تمسكهم بالفدرالية، وحرصهم على “النهوض بالمجتمع المسيحي والاقتصاد المسيحي” ووصفهم الواقع المسيحي الحالي بـ”الذمية السياسية” ورفضهم لمفاعيل اتفاق الطائف واعتبارها متناقضة مع القانون الدولي، معتبرين أن هذا الدستور يشكّل خطرًا وجوديًا على المسيحيين، لأنه كرس في إحدى المراحل “سيطرة سنية” ثم “سيطرة نظام الأسد والشيعية السياسية” في مراحل لاحقة متتالية.
وعلى الرغم من أنهم أعلنوا تمسكهم بالقيم المسيحية المتمثلة في الحفاظ على الأسرة، ورفض ربط الهوية الجندرية بأي مشروع سياسي، ورفض الخروج عن التقسيم الثنائي للجنس البشري (ذكر/أنثى) إلا أنهم رفضوا حوار الأديان وطالبوا باستبداله بـ”حوار الشعوب والجماعات ذات الهوية الدينية” على أساس السلام والقبول المتبادل!!! كما أعلنوا عزمهم على دعم المدارس المسيحية لتكون بديلًا عن المدارس الرسمية.
ولم يكتفِ المجتمعون بهذا فحسب، بل أعلنوا رفضهم لأي عمل من أعمال “معاداة الغرب” من منطلق ديني أيديولوجي، وعزمهم على “مواجهة الإسلام السياسي المتطرف والحركات الجهادية”، مع التفريق بينها وبين الإسلام كدين سماوي!!!
كما طالب المجتمعون بإخراج اللاجئين السوريين والفلسطينيين فورًا من لبنان، مع الإبقاء على حق اللجوء السياسي للأفراد وليس للجماعات.
وهناك الكثير والكثير من البنود الطائفية المؤسفة التي لا يتّسع المجال لذكرها…
إننا في هيئة علماء المسلمين في لبنان نعلن ما يلي:
إن هذا التحرك يأتي في وقت مشبوه، ويتزامن مع تحركات جماعات من الأقليات المتمردة على النظام الجديد في سوريا، والتي تطالب بالحماية الدولية والانفصال أو بالحماية الإسرائيلية في مواجهة إرادة أغلبية الشعب السوري في الوحدة والنهوض بسوريا.
ونتساءل: لماذا لم يتحرك هؤلاء عندما كانت “الشيعية السياسية” هي المسيطرة في لبنان، وعندما كان “النظام العلوي الطائفي” يحكم قبضته على سوريا؟
يبدو أن المحرك واحد، والدافع واحد، وهو دفع الأقليات في بلاد الشام نحو دعوات التقسيم، التي تأخذ أشكالًا عدة، ومن ضمنها الدعوة إلى الفدرالية!
إننا نستغرب هذه اللغة الفئوية العنصرية التي تتحدث عن “مجتمع مسيحي” يجب العمل على النهوض به ودعم اقتصاده، ورفض “الذمية السياسية” للمسيحيين!
فهل سحب هؤلاء المسيحيون اعترافهم بـ”لبنان الرسالة”، الذي شكّل نداء وثيقة السينودس من أجل لبنان عام 1995، التي أعلنها البابا يوحنا بولس الثاني آنذاك؟
وهل قرر هؤلاء المسيحيون اعتبار أنفسهم “مجتمعًا مستقلا عن المجتمع اللبناني”، فيعملون على “نهوض مجتمعهم” على حساب نهوض المجتمع اللبناني؟
وهل يعتبر هؤلاء المسيحيون أن وجودهم كمواطنين متساوين مع غيرهم في الدولة هو “ذمية سياسية”؟!!!
كما نتساءل أيضًا عن رفضهم لاتفاق الطائف، الذي أنهى سنوات طويلة من الحرب الأهلية التي أكلت الأخضر واليابس في لبنان!
فهل المسيحيون الذين وافقوا على هذا الاتفاق، ومنهم البطريرك مار نصر الله بطرس صفير، خائنون للمسيحية؟!!!
على أي أساس يعلن المجتمعون مجابهة “الحركات الإسلامية السياسية والجهادية”، وهم أنفسهم يعلنون عن “حركة مسيحية سياسية متطرفة”؟
فهل يحق لهم ما لا يحق لغيرهم؟!
ومتى شكّل الإسلام السياسي تهديدًا وجوديًا لهم؟!
إن جميع المسلمين في لبنان متمسكون بصيغة العيش المشترك، ضمن دولة القانون والمؤسسات العادلة. فلماذا هذا الفجور في الخصومة مع شركائهم في الوطن؟!
إن مواجهة اليسار العَلماني الجندري النسوي، الذي يعمل على تقويض الأسرة ونشر الشذوذ، هو أمر مشترك بين المسلمين والمسيحيين.
وكان من الأولى، بدلًا من الحديث عن “جبهة يمينية أوروبية أمريكية”، أن يتحدثوا عن “جبهة إسلامية مسيحية لبنانية”، تحمي الأسرة والفطرة والقيم الأخلاقية التي يكفلها الدستور اللبناني.
إن إعلانهم تأييد “خطة السلام بين دول المنطقة”، التي يريدها الرئيس الأمريكي ترامب، هو اعتداء على حق الشعبين الفلسطيني واللبناني في تحرير أرضهما من الاحتلال، خاصة وأن ترامب يريد اقتلاع أهل غزة من أرضهم وتوطينهم في بلد آخر.
إن عنصريتهم التي ظهرت من خلال دعوتهم لإخراج اللاجئين السوريين والفلسطينيين فورًا من لبنان، قد أنستهم أن هناك لاجئين آخرين تم تجنيسهم، وهم اللاجئون الأرمن والمسيحيون العراقيون والسوريون!
هذا فضلًا عن أن هذه الدعوة تتناقض مع التضامن العربي وحقوق الإنسان.
إن لبنان ليس جزيرة معزولة، بل هو بلد يقع بين فلسطين وسوريا، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتعامل مع الشعبين الفلسطيني والسوري من هذا المنطلق العنصري البغيض.
إن مطالبتهم بمنع إعطاء الجنسية اللبنانية عبر الزواج برعايا دول الجوار والمحيط هو عنصرية بغيضة ضد المرأة اللبنانية، وهضم لحقوقها وحقوق أبنائها.
وهذا يتناقض أصلًا مع المواثيق الدولية التي يدعون للتمسك بها!
وخلاصة القول:
إن كل بند من البنود التي أعلنت في وثيقة مؤتمرهم يحمل النفس الطائفي التقسيمي الحاقد على كل شعوب المنطقة.
إن المسلمين السنّة في لبنان حريصون على بناء الدولة القوية العادلة، التي يتساوى فيها كل اللبنانيين في المواطنة، ويمدّون أيديهم لكل شركائهم في الوطن، ومنهم المسيحيون، لتحقيق ذلك.
فمن أحبّ أن يتعاون معنا لتحقيق هذه الغاية فأهلًا وسهلًا، ومن أصرّ على لغة الانفصال والعداء فهو حر…
لكننا نُنبّه أن هذه اللغة الانفصالية والعدائية قد تفتح الباب واسعًا للدعوة إلى الوحدة السياسية والاقتصادية والجغرافية بين كل دول بلاد الشام…
وعندها، فليتمتع “اليمين المسيحي اللبناني” بـ”اليمين الأوروبي والأمريكي” خلف البحار، ولنتمتع نحن بمحيطنا العربي والإسلامي الواسع، الذي يشمل الأردن وسوريا ولبنان وفلسطين، ويلتقي حتمًا مع تركيا والخليج العربي، ويكون جزءًا لا يتجزأ من أمة الملياري مسلم في كل العالم…
هيئة علماء المسلمين في لبنان
الاثنين ٢٤ رمضان ١٤٤٦ هـ
الموافق ٢٤ آذار (مارس) ٢٠٢٥ م