جاري التحميل الآن
×

(فِعلُ ما بالإمكان) ليسَ مِنَ البِدَعِ ولا الحَدَثان كتب الشيخ مصباح نزيه الحنون

(فِعلُ ما بالإمكان) ليسَ مِنَ البِدَعِ ولا الحَدَثان كتب الشيخ مصباح نزيه الحنون

فعل ما بالإمكان ليس من البدع ولا الحَدَثان !

الحمدلله الذي لم يكلف عباده ما لا يطيقون؛ ويعفو عنهم مايعلمون وما لايعلمون.
والصلاة والسلام على النبي الكريم الذي بُعث بالحنيفية السمحة وعلى آله وأصحابه صلاة دائمة إلى يوم يُبعثون.. أما بعد :

فإن الشريعة المحمدية أُنزِلت لترفع العنت، ولتنفي الحرج وتجلب اليُسر.

والأصل في التكليف اليُسر ما لم يكن حراماً؛ والحرام منه ما هو قطعي الدلالة، وهذا قلّ أن يختلف عليه من المسلمين أحد؛ ومنه ماهو ظني الدلالة وهذا الذي يقع فيه الخلاف ولا يُبدع العلماء فيه بعضهم بعضا!
ومنه ما حرمه البعض بناء على أدلة موهومة في مسائل اجتهادية متعلقة بنوازل عصرية !
فتمسكوا بنصٍ ظنيّ الدلالة دون استجماع لمتعلقات المسألة التي حَرَّموها، ودونما استيعاب لفهم العلماء الراسخين للنص الذي اعتمدوا عليه؛ ودونما نظر لما سيفوت الأمة من مصالح، وما يُدرأ عنها من مفاسد، جراء التشبث بنص وإهمال ما هو أولى ..
ولا بد من التفريق في إنزال الأحكام بين واقع التمكين وواقع الضعف، ومن اختل عنده التفريق بين الواقعيْن سيتبع ذلك اختلال في تنزيل الحكم؛ سيوقع صاحبه بالخروج عن مقصود الشريعة إما إلى التعنت والمشاقة على الأمة، وإما إلى الانسلاخ والتفلت من قيود النصوص المبنية على الحكمة والعلم والرحمة والعدل.
ونحن في واقع الضعف تُفرض علينا أمورٌ، منها ما تأباه الفِطر والشرائع مما هو ظاهر الحرمة؛ ومنها ما تحتاج لملكة استنباط واجتهاد وإمكانية تعاون للوصول لأقرب نقطة من الحق …
وغالب هذه الأمور ماتكون بيضة الترجيح فيها هو مبدأ الموازنات بين المصالح والمفاسد؛ وأصعب أصنافها ما اجتمعت فيه المفاسد وتزاحمت وتحتاج لاختيار أدناها شراً وأقلها ضرراً؛ لا على سبيل الرضا بالشر بل على سبيل تقليله !
وهذا بحث يطول وأرجو الله أن ييسر لي إفراده بالتأصيل والتفصيل ..
ولكن الذي أريد الكلام عنه أن فعل ما بالإمكان ليس بالبدع ولا الحدثان ..
وبالمثال يتضح المقال :
فمسألة جباية الضرائب قد تشبث البعض بتحريم مطلق الوظائف في الجبايات؛ إذا كان في دولة مسلمة أمراؤها يؤخرون الصلاة عن وقتها ويقدمون الأشرار ويؤخرون الأخيار ؛ وقالوا إذا كانت علة التحريم هي تأخير الصلاة فما فوقها من المخالفات أولى بالتحريم؛ والخلاصة أن أعمال الجباية إن كانت في الدولة المسلمة الظالمة حرام…فمن باب أولى أن تكون في الدولة الكافرة أشد حرمة!
وهذا النص الذي انبنى عليه التحريم −عندهم−هو الآتي:
روى ابن حبان عن أبي سعيد و أبي هريرة قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ليأتين عليكم أمراء يقربون شرار الناس ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها فمن أدرك ذلك منكم فلا يكونن عريفا ولا شرطيا و لا جابيا ولا خازنا )
صححه الألباني ..

بهذا حرموا العرافة والجباية والشرطة والخزانة…
وبالتالي صدرت فتاوى جازمة بتحريم انتخابات البلدية والمختارية تحريم ترشح وانتخاب وممارسة!
وأن الساعي فيها مع عدم إمكانية غيرها هو مفتون في دينه ضال عن الحق!
وقد سبق أن بينت فهم العلماء للحديث−إن صح−والصحيح أنه ليس بصحيح ؛ بتضعيف غير واحد له وبإيراد تراجع للشيخ الألباني رحمه الله نقله عنه تلميذه الشيخ علي الحلبي حفظه الله…
ومع ذلك نقول كما قلنا اولا أننا نفترض الصحة…
ولما ضربت مثلا عن الجباية كان لا بد من الإتمام لما بدأت ؛ لأبين أن مطلق تحريم وظيفة الجباية فيها وقوع للأمة بالعنت ، دونما تفصيل ولا توجيه للداخل فيها للأفضل وتحقيق ما أمكن من دفع الشر وجلب الخير .

سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عمَّن تولى جباية ما يوجبه الحكام الظلمة من إقطاعات غير ما أوجبه الله في أموال المسلمين ، و كان بوسعه أن يخفف بعمله ذلك الظلم، و لا يقدر على رفعه بالكلية، فقال رحمه الله في جوابه : ( و المقطع الذي يفعل هذا الخير يرفع عن المسلمين ما أمكنه من الظلم ، و يدفع شر الشرير بأخذ بعض ما يطلب منهم ، فما لا يمكنه رفعه هو محسن إلى المسلمين غير ظالم لهم ، يثاب ، و لا إثم عليه فيما يأخذه على ما ذكره ، و لا ضمان عليه فيما أخذه ، و لا إثم عليه في الدنيا و الآخرة إذا كان مجتهدًا في العدل والإحسان بحسب الإمكان … فهذا المتولي المقطع الذي يدفع بما يوجد من الوظائف ، و يصرف إلى من نسبه مستقراً على ولايته و إقطاعه ظلماً و شراً كثيراً عن المسلمين أعظم من ذلك ، و لا يمكنه دفعه إلا بذلك ، إذا رفع يده تولي من يقره و لا ينقص منه شيئاً ، هو مثاب على ذلك ، و لا إثم عليه في ذلك ولا ضمان في الدنيا و الآخرة … و كذلك الجندي المقطع الذي يخفف الوظائف عن بلاده ، و لا يمكنه دفعها كلها ؛ لأنه يطلب منه خيل و سلاح و نفقة لا يمكنه إقامتها إلا بأن يأخذ بعض تلك الوظائف ، و هذا مع هذا ينفع المسلمين في الجهاد ، فإذا قيل له : لا يحل لك أن تأخذ شيئًا من هذا، بل ارفع يدك عن هذا الإقطاع ، فتركه و أخذه من يريد الظلم ، و لا ينفع المسلمين ؛ كان هذا القائل مخطئاً جاهلاً بحقائق الدين ، بل بقاء الجند من الترك و العرب الذين هم خير من غيرهم ، و أنفع للمسلمين ، و أقرب للعدل على إقطاعهم ، مع تخفيف الظلم بحسب الإمكان ، خير للمسلمين من أن يأخذ تلك الإقطاعات من هو أقل نفعاً و أكثر ظلماً .

والمجتهد من هؤلاء المقطعين كلهم في العدل و الإحسان بحسب الإمكان ، يجزيه الله على ما فعل من الخير ، و لا يعاقبه على ما عجز عنه ، و لا يؤاخذه بما يأخذ و يصرف ، إذا لم يكن إلا ذلك كان ترك ذلك يوجب شراً أعظم منه ) . [ مجموع الفتاوى : 30/357و ما بعدها باختصار ].

فتأمل كيف أن شيخ الإسلام لم يفته بالحرمة وما أسهلها لو فعل ؛ ولكنه آثر ما يستغرق منه كداً في عدم تفويت مصالح للمسلمين والقيام بما أمكن لدفع المفاسد وجلب المصالح ؛ وهذا ما كان ليكون−في الغالب−في وجود سلطان مسلم يقوم بما أناطه الله به من واجبات ؛ لذلك قال الجويني رحمه الله : فإذا خلا الزمان عن السلطان ، وجب البدار على حسب الإمكان إلى درء البوائق عن أهل الإيمان ، ونهينا الرعايا عن الاستقلال بالأنفس من قبيل الاستحثاث على ما هو أقرب إلى الصلاح ، والأدنى إلى النجاح ….
ثم قال : وإذا لم يصادف الناس قَوّاماً بأمورهم يلوذون به ، فيستحيل أن يُؤمروا بالقعود عما يقتدرون عليه من دفع الفساد ، فإنهم لو تقاعدوا عن الممكن عمّ الفساد البلاد والعباد….هـ انظر غياث الأمم في التياث الظلم ص289..

وقد بين السعدي رحمه الله أن هذا الكد والجهد في فعل ما أمكن هو من طرائق الأنبياء ؛ وقد ذكر ذلك تحت قوله تعالى :
(قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ۚ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)
[سورة هود 88]

قال :…….
ومنها أن الله يدفع عن المؤمنين بأسباب كثيرة قد يعلمون بعضها وقد لا يعلمون شيئا منها ، وربما دفع عنهم بسبب قبيلتهم أو أهل وطنهم الكفار ، كما دفع الله عن شعيب رجم قومه بسبب رهطه، وأن هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين لا بأس بالسعي فيها ؛ بل ربما تعين ذلك لأن الإصلاح مطلوب على حسب القدرة والإمكان.
فعلى هذا لو ساعد المسلمون الذين تحت ولاية الكفار ، وعملوا على جعل الولاية جمهورية يتمكن فيها الأفراد والشعوب من حقوقهم الدينية والدنيوية لكان أولى من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية وتحرص على إبادتها وجعلهم عمَلَةً وخَدَمًا لهم .
نعم إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين وهم الحكام فهو المتعين ؛ ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة فالمرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدمة والله أعلم…..

وقال : ومنها أن وظيفة الرسل وسنتهم وملتهم إرادة الإصلاح بحسب القدرة والإمكان، فيأتون بتحصيل المصالح وتكميلها أو بتحصيل ما يقدر عليه منها، وبدفع المفاسد وتقليلها، ويراعون المصالح العامة على المصالح الخاصة،
وحقيقة المصلحة هي التي تصلح بها أحوال العباد وتستقيم بها أمورهم الدينية والدنيوية

ومنها أن من قام بما يقدر عليه من الإصلاح لم يكن ملوما ولا مذموما في عدم فعله ما لا يقدر عليه ، فعلى العبد أن يقيم من الإصلاح في نفسه وفي غيره ما يقدر عليه…هـ كلامه رحمه الله .

بهذا يتبين أن التمسك بظاهر النص مع إهمال النظر لقواعد الموازنات في فقه المصالح والمفاسد ومعرفة القدرات وما أمكن هو خروج عن مقصود الشريعة وتمكن لأهل الباطل…
وتبقى وظيفة الجبايات يُنظر فيها إلى ما يتمكن المسلم من فعله وتحصيل ما أمكنه من مصالح وتخفيف ما أمكنه من مفاسد.
وإن مطلق تحريم الجبايات يتبعه تحريم الأفرع التي وُضعت في المجتمعات المدنية والتي من وظيفتها جباية الضرائب ! كمكاتب البوست والdhl وكذلك جباة الكهرباء والمياه وغير ذلك مما يفوت على الناس مكاسبهم ويحرم عليهم أنواعاً من العمل في مجتمعهم بالظن دون اليقين وبالنظر لجانب واحد وإهمال جوانب أُخر من ترك الممكنات!
وقد عقد شيخ الاسلام فصلا في كتاب السياسة الشرعية بعنوان : (ظلم الولاة والرعية)
واتبعه بباب : (التوظف لمنع المظالم أو تخفيفها أو خوف دخول المفسدين أو التوظف لأنه لا يجد إلا مثل هذه الوظائف)
وقال تحته :

وَالْمُعِينُ عَلَى الإِثم وَالْعُدْوَان مَنْ أَعَانَ الظَّالِمَ عَلَى ظُلْمِهِ، أَمَّا مَنْ أَعَانَ الْمَظْلُومَ عَلَى تَخْفِيفِ الظُّلْمِ عَنْهُ، أَوْ عَلَى أداء الْمَظْلِمَةِ: فَهُوَ وَكِيلُ الْمَظْلُومِ؛ لَا وَكِيلُ الظَّالِمِ؛ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يُقْرِضُهُ، أَوْ الَّذِي يَتَوَكَّلُ فِي حَمْلِ الْمَالِ لَهُ إلَى الظَّالِمِ”[ص137].

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى في شرحه لكتاب السياسة الشرعية :

“هذه الجملة تكتب بماء الذهب: “وَالْمُعِينُ عَلَى الإِثم وَالْعُدْوَانِ مَنْ أَعَانَ الظَّالِمَ عَلَى ظُلْمِهِ، أَمَّا مَنْ أَعَانَ الْمَظْلُومَ عَلَى تَخْفِيفِ الظُّلْمِ عَنْهُ”.

مثال ذلك: الجمارك: المكوس عندنا؛ لو قال إنسان: أنا أريد أن أتوظف بها من أجل التخفيف على الناس لا من أجل ظلم الناس؟

قلنا: لا بأس؛ إذا أردت أن تتوظف من أجل التخفيف على الناس بدل من أن يجعلوا الضريبة – مثلاً – عشرة بالمائة، تأخذ أنت خمسة بالمائة مثلاً، أو تسمح عن بعض الأشياء التي يمكنك أن تسمح عنها؛ فهذا ليس معيناً للظالم على ظلمه بل هو معين للمظلوم على تخفيف الظلم عنه.

وكذلك على أداء المظلمة: إذا أعان على أداء المظلمة أيضاً لا بأس؛ إن عرف أن هذا الشخص لا بد أن يؤخذ منه هذا الشيء فأنا أعينه على أداء المظلمة ودفعها عنه بقدر الإمكان، هذا أيضاً لا بأس به.

وكثير من طلبة العلم تخفى عليهم هذه المسألة؛ يقول: “لا تفعل ولو كان ذلك لمصلحة المظلوم”.

وهذا في الحقيقة فيه قصور نظر: أنت لا تنظر إلى الشيء من جانب واحد؛ انظر إلى الشيء من الجانبين، صحيح أنك لا تحب أن يُظلَم الناس ولا بدرهم واحد، لكن إذا كان بدونك سيُظلم الناس بعشر دراهم وبوجودك بخمسة؛ صار في هذا تخفيف للظلم، ثم هو في الواقع مصلحة للظالم والمظلوم؛ الظالم تخفف عنه الإثم، والمظلوم تخفف عنه المظلمة، ولهذا قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) قالوا: يا رسول الله كيف ننصر الظالم؟ قال: (تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه).

فهذه المسألة يا إخواني طلبة العلم انتبهوا لها، لا تنظروا إلى الشيء من جانب واحد؛ لأننا لو نظرنا من جانب واحد لقلت: لا يمكن أن أكون في هذا المركز إطلاقاً لأني سأظلم، لكن نقول: انظر المصلحة إذا كنت فيه وكان عندك قدرة أن تخفف الظلم فهذه مصلحة للظالم ومصلحة للمظلوم ، سبحان الله شيخ الإسلام أعطاه الله سبحانه وتعالى مع العلم حكمة وبعد نظر ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .هـ.انظر شرح كتاب السياسة الشرعية لابن عثيمين ص138.مكتبة فياض..

قال ابن القيم رحمه الله : ولهذا يجب على كل من وليِّ أمر أن يستعين في ولايته بأهل الصدق والعدل ؛ والأمثل فالأمثل وإن كان فيه كذبٌ أو فجور ، فإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ، وبأقوام لا خلاق لهم ؛ قال عمر رضي الله عنه : من قلّد رجلا على عصابة ، وهو يجدُ في تلك العصابة من هو أرضى منه فقد خان الله ورسوله وجماعة المؤمنين.
والغالب : أنه لا يوجد الكامل في ذلك ؛ فيجب تحري خير الخيريْن ، ودفع شرَّ الشريْن ؛ وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يفرحون بانتصار الروم والنصارى على المجوس عُبَّاد النار ؛ لأن النصارى أقرب إليهم من أولئك ، وكان يوسف عليه السلام نائباً لفرعون مصر ، وقومه مشركون ، وفعل من الخير والعدل ما قدر عليه ودعا إلى الإيمان بحسب الإمكان .هـ
الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ص185.

بهذا يتبين أن فعل ما أمكنه الإنسان في الانخراط في وظائف ومناصب لتخفيف الظلم ودفع الشر وتحصيل الخير بحسب الإمكان لايكون محرماً بمجرد دلالات نصوص عامة ظنية الدلالة ، لا سيما ونحن في مجتمع يغيب عنه السلطان المسلم ؛ فالواجب على المسلمين السعي للتكافل والتكامل بحسب الامكان والله المستعان وعليه التكلان .
والحمدلله رب العالمين .
كتبه مصباح نزيه الحنون
15/شعبان/1437هـ

Share this content:

إرسال التعليق